فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى (1)}
{سبح} في هذه الآية، بمعنى نزه وقدس وقل سبحانه عن النقائص والغير جمعاً وما يقول المشركون، والاسم الذي هو: ألف، سين، ميم، يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمى، ويأتي في مواضع يراد به التسمية نحو قوله عليه السلام: «إن لله تسعة وتسعين اسماً» وغير ذلك، ومعنى أريد به المسمى فإنما هو صلة كالزائد كأنه قال في هذه الآية: سبح ربك، أي نزهه، وإذا كان الاسم واحدا من الأسماء كزيد وعمرو، فيجيء في الكلام على ما قلت، تقول زيد قائد تريد المسمى، وتقول: زيد ثلاثة أحرف تريد به التسمية، وهذه الآية تحتمل هذا الوجه الأول، وتحتمل أن يراد بالاسم التسمية نفسها على معنى نزاه اسم ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن، فيقال له إله ورب ونحو ذلك، و{الأعلى} يصح أن يكون صفة للاسم، ويحتمل أن يكون صفة للرب، وذكر الطبري أن ابن عمر وعلياً قرآ هذه السورة: (سبحان ربي الأعلى) قال وهي في مصحف أبيّ بن كعب كذلك، وهي قراءة أبي موسى الأشعري وابن الزبير ومالك بن أبي دينار، وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: (سبحان ربي الأعلى)، وكان ابن مسعود وابن عامر وابن الزبير يفعلون ذلك، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم»، وقال قوم: معنى {سبح اسم ربك} نزه اسم ربك تعالى عن أن تذكره إلا وانت خاشع، وقال ابن عباس معنى الآية: صلّ باسم ربك الأعلى كما تقول ابدأ باسم الله، وحذف حرف الجر، و(سوى)، معناه عدل وأتقن حتى صارت الأمور مستوية دالة على قدرته ووحدانيته.
وقرأ جمهور القراء {قدر} بشد الدال فيحتمل أن يكون من القدر والقضاء، ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة، وقوله تعالى: {فهدى} عام لوجوه الهدايات فقال الفراء: معناه هدى وأضل، واكتفى بالواحدة لدلالتها على الأخرى، وقال مقاتل والكلبي: هدى الحيوان إلى وطء الذكور الإناث، وقيل هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي، وقال مجاهد: هدى الناس للخير والشر، والبهائم، للمراتع..
قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقوال مثالات، والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كل هداية، و{المرعى}: التبات، وهو أصل في قيام المعاش إذ هو غذاء الأنعام ومنه ما ينتفع به الناس في ذواتهم، و(الغثاء) ما يبس وجف وتحطم من النبات، وهو الذي يحمله السيل، وبه يشبه الناس الذين لا قدر لهم، و(الأحوى): قيل هو الأخضر الذي عليه سواد من شدة الخضرة والغضارة، وقيل هو الأسود سواداً يضرب إلى الخضرة ومنه قول ذي الرمة: البسيط:
لمياء في شفتيها حوّة لعس ** وفي اللثاث وفي أنيابها شنب

قال قتادة: تقدير هذه الآية {أخرج المرعى}، {أحوى} أسود من خضرته ونضارته، {فجعله غثاء} عند يبسه، ف {أحوى} حال، وقال ابن عباس: المعنى {فجعله غثاء أحوى} أي أسود، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار {أحوى} بهذه الصفة. وقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى}، قال الحسن وقتادة ومالك ابن أنس: هذه الآية في معنى قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك} [القيامة: 16] الآية، وعد الله أن يقرئه وأخبره أنه لا ينسى نسياناً لا يكون بعده ذكر، فتذهب الآية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك شفتيه مبادرة خوفاً منه أن ينسى، وفي هذا التأويل آية النبي صلى الله عليه وسلم في أنه أمي، وحفظ الله تعالى عليه الوحي، وأمنه من نسيانه، وقال آخرون: ليست هذه الآية في معنى تلك، وإنما هذه وعد بإقرار الشرع والسور، وأمره أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد، وقد علم أن ترك النسيان ليس في قدرته، فقد نهي عن إغفال التعاهد، وأثبت الياء في {تنسى} لتعديل رؤوس الآي، وقال الجنيد: معنى {فلا تنسى}، لا تترك العمل بما تضمن من أمر ونهي، وقوله تعالى: {إلا ما شاء الله}، قال الحسن وقتادة وغيره مما قضى الله تعالى بنسخه، وأن ترفع تلاوته وحكمه.
وقال الفراء وجماعة من أهل المعاني: هو استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح نسيانه، وقال ابن عباس: {إلا ما شاء الله} أن ينسيكه لتسن به على نحو قوله عليه السلام: «إني لأنسى أَو أُنَسَّى لأسنَّ» وقال بعض المتأولين: {إلا ما شاء الله} أن يغلبك النسيان عليه ثم يذكرك به بعد، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قراءة عباد بن بشر يرحمه الله: «لقد أذكرني كذا في سورة كذا وكذا».
قال القاضي أبو محمد: ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع فيما أمر بتبليغه، إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعي عنه، فالنسيان جائز على أن يتذكر بعد ذلك وعلى أن يسنَّ، أو على النسخ، ثم أخبر تعالى: {إنه يعلم الجهر} من الأشياء {وما يخفى} منها، وذلك لإحاطته بكل شيء علماً، وبهذا يصح الخبر بأنه لا ينسى شيئاً إلا ذكره الله تعالى به، وقوله تعالى: {ونيسرك لليسرى} معناه: نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وأخراك من النصر والظفر وعلو الرسالة والمنزلة يوم القيامة، والرفعة في الجنة، ثم أمره تعالى بالتذكير، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: {إن نفعت الذكرى} فقال الفراء والزهراوي معناه: وإن لم تنفع، فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني، وقال بعض الحذاق: إنما قوله: {إن نفعت الذكرى}، اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش، أي {إن نفعت الذكرى} في هؤلاء الطغاء العتاة، وهذا نحو قول الشاعر: [الوافر]:
قد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادي

وهذا كله كما تقول لرجل قل لفلان واعد له إن سمعك إنما هو توبيخ للمشار اليه ثم أخبر تعالى أنه {سيذكر من يخشى} الله والدار الآخرة وهم العلماء والمؤمنون كل بقدر ما وفق ويتجنب الذكرى ونفعها من سبقت له الشقاوة فكفر ووجب له صلى بالنار.
وقال الحسن: {النار الكبرى} نار الآخرة والصغرى نار الدنيا وقال بعض المفسرين: إن نار جميع الآخرة وإن كانت شديدة فهي تتفاضل ففيها شيء أكبر من شيء.
وقال الفراء: {الكبرى} هي السفلى من أطباق النار وقوله تعالى: {ثم لا يموت فيها ولا يحيى} معناه {لا يموت فيها} موتا مريحا. {ولا يحيى} حياة هنية هو لا محالة حي وقد ورد في خبر إن العصاة في النار موتى.
قال القاضي أبو محمد: وأراه على التشبيه لأنه كالسبات والركود والهمول فجعله موتا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
وقوله تعالى: {فذكر إِنْ نَفَعَتِ الذكرى}.
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن التذكير لا يطلب إلا عند مظنة نفعه بدليل أَنْ الشرطية.
وقد جاء آيات كثيرة تدل على الأمر بالتذكير مطلقا كقوله: {فذكر إِنْ نَفَعَتِ الذكرى} وقوله: {وَلَقَدْ يسرنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
وأجيب عن هذا بأجوبة كثيرة منها أن في الكلام حذفا أي إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ} أي والبرد وهو قول الفراء والنحاس والجرجاني وغيرهم.
ومنها أنها بمعنى (إذ) وإتيان {إن} بمعنى (إذ) مذهب الكوفيين خلافا للبصريين.
وجعل منه الكوفيون قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {وَعلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» وقول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا ** جهارا ولم تغضب لقتل بن حازم

وأجاب البصريون عن آيات {إن كنتم مؤمنين} بأن فيها معنى الشرط جيء به للتهييج وعن آية {إن شاء الله} والحديث بأنهما تعليم للعباد كيف يتكلمون إذا أخبروا عن المستقبل وعن البيت بجوابين:
أحدهما:
أنه من إقامة السبب مقام المسبب والأصل: أتغضب إن افتخر مفتخر بحز أذني قتيبة إذ الافتخار بذلك يكون سببا للغضب ومسببا عن الحز.
الثاني:
أتغضب أن تبين في المستقبل أن أذني قتيبة حزتا.
ومنها أن معنى {إِنْ نَفَعَتِ الذكرى} الإرشاد إلى التذكير بالأهم أي ذكر بالمهم الذي فيه النفع دون ما لا نفع فيه.
فيكون المعنى ذكر الكفار مثلا بالأصول التي هي التوحيد، لا بالفروع لأنها لا تنفع دون الأصول وذكر المؤمن التارك لفرض مثلا بذلك الفرض المتروك لا بالعقائد ونحو ذلك لأنه أنفع.
ومنها أن {إِنْ} بمعنى (قد) وهو قول قطرب.
ومنها أنها صيغة شرط أريد بها ذم الكفار واستبعاد تذكرهم كما قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادي

ومنها غير ذلك.
والذي يظهر لمقيد هذه الحروف عفا الله عنه بقاء الآية الكريمة على ظاهرها وأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن يكرر الذكرى تكراير تقوم به حجة الله على خلقه مأمور بالتذكير عند ظن الفائدة أما إذا علم عدم الفائدة فلا يؤمر بشيء هو عالم أنه لا فائدة فيه لأن العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه وقد قال الشاعر:
لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن ** لشيء بعيد نفعه الدهر ساعيا

وهذا ظاهر ولكن الخفاء في تحقيق المناط.
وإيضاحه أن يقال: بأي وجه يتيقن عدم إفادة الذكرى حتى يباح تركها.
وبيان ذلك أنه تارة يعلمه بإعلام الله له به كما وقع في أبي لهب حيث قال تعالى فيه: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ} الآية.
فأبو لهب هذا وامرأته لا تنفع فيهما الذكرى لأن القرآن نزل بأنهما من أهل النار بعد تكرار التذكير لهما تكرار تقوم عليهما به الحجة فلا يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك أن يذكرهما بشيء لقوله تعالى في هذه الآية: {فذكر إِنْ نَفَعَتِ الذكرى}.
وتارة يعلم ذلك بقرينة الحال بحيث يبلغ على أكمل وجه ويأتي بالمعجزات الواضحة فيعلم أن بعض الأشخاص عالم بصحة ثبوته وأنه مُصرّ على الكفر عنادا ولجاجا فمثل هذا لا يجب تكرير الذكرى له دائما بعد أن تكرر عليه تكريرا تلزمه به الحجة.
وحاصل أيضًاح هذا الجواب أن الذكرى تشتمل على ثلاث حكم:
الأولى:
خروج فاعلها من عهدة الأمر بها.
الثانية:
رجاء النفع لمن يوعظ بها وبين الله تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى: {قالوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلعلهمْ يَتَّقُونَ} وبيّن الأولى منها بقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}.
وقوله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} ونحوها من الآيات.
وبين الثانية بقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.
الثالثة:
إقامة الحجة على الخلق وبينها الله تعالى بقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
وبقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعذاب مِنْ قَبْلِهِ لَقالوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} الآية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كرر الذكرى حصلت الأولى والثالثة فإن كان في الثانية طمع استمر على التذكير وإلا لم يكلف بالدوام والعلم عند الله تعالى.
وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها وأن معناها: فذكر مطلقا إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادر منه إلا لدليل يجب الرجوع له.
وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها جنح ابن كثير حيث قال في تفسيرها أي ذكر حيث تنفع التذكرة ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم فلا يضعه في غير أهله كما قال علي رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
وقال حدث الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله.
(تنبيه) هذا الإشكال الذي في هذه الآية إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة وأما على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطا كان أو غيره كأبي حنيفة فلا إشكال في الآية وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط كالباقلاني فتكون الآية نصت على الأمر بالتذكير عند مظنة النفع وسكت عن حكمه عند عدم مظنة النفع فيطلب من دليل آخر فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقا. اهـ.

.تفسير الآيات (14- 19):

قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى (15) بَلْ تؤثرون الْحَيَاةَ الدنيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى (18) صُحُفِ إبراهيم وموسى (19)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ثبت بهذا أن لهذا هذا الشقاء الأعظم، فكان التقدير: لأنه لم يزك نفسه لأنه ما كان مطبوعاً على الخشية، أنتج ولابد قوله تعالى دالاً على الدين التكليفي وهو اجتناب واجتلاب، فجمع الاجتناب والاجتلاب بالتزكية بالتبتل بالأبواب والملازمة للأعتاب بامتثال الأمر واجتناب النهي بالمجاهدات المقربات إليه سبحانه وتعالى، المنجيات بعد ما حذر من المهلكات، للمسارعة في محابه ومراضيه اجتماعاً على العبادة الموصلة للخالق بعد حصول الكمال والتكميل فإنه لابد في الحياة الطيبة بعد الانتماء إلى ذي الجاه العريض والاقتداء بمن لا يزيغ من الارتباط بطريقة مثلى يحصل بها الاغتباط ليصل بها إلى المقصود ويعمّر أوقاته بوظائفها لئلا يحصل له خلل ولا ضياع لنفائس الأوقات ولا غفلة يستهويه بها قطاع الطريق: {قد أفلح} أي فاز بكل مراد {من تزكى} أي أعمل نفسه في تطهيرها من فاسد الاعتقادات والأخلاق والأقوال والأفعال والأموال وتنمية أعمالها القلبية والقالبية وصدقة أموالها، وذلك هو التسبيح الذي أمر به أول السورة وما تأثر عنه، من عمل هذا فهو الأسعد.
ولما كان أعظم الأعمال المزكية الذكر والصلاة قال تعالى: {وذكر} أي بالقلب واللسان ذكر وذكر- بالكسر والضم {اسم ربه} أي صفات المحسن إليه فإنه إذا ذكر الصفة سر بها فأفاض باطنه على ظاهره ذكر اللفظ الدال عليها، وإذا ذكر اللفظ وهو الاسم الدال عليها انطبع في قلبه ذكر المسمى {فصلى} أي الصلاة الشرعية لأنها أعظم الذكر، فهي أعظم عبادات البدن كما أن الزكاة أعظم عبادات المال، ومن فعل ذلك استراح من داء الإعجاب وما يتبعه من النقائص الموجبة لسوء الانقلاب، وكان متخلقاً بما ذكر من أخلاق الله في أول السورة من التخلي عن النقائص بالتزكية، والتحلي بالكمالات بالذكر والصلاة لأنه لعظمته لا يتأهل لذكره إلا من واظب إلى ذكر اسمه فلا يشقى فلا يصلى النار الكبرى بوعد لا خلف فيه- فالآية من الاحتباك في الاحتباك: ذكر أولاً الصلى دليلاً على حذف ضده ثانياً، وثانياً التزكية دليلاً على حذف ضدها أولاً، وقد تكفل ذكر التزكية والذكر، والصلاة من أسباب التداوي بالإنضاج ثم الأشربة ثم الأغذية، والآية صالحة لإرادة زكاة الفطر وتكبيرات العيد وصلاته وإن كانت السورة مكية وفرض الصيام بالمدينة، لأن العبرة بعموم اللفظ لإحاطة علمه سبحانه وتعالى بالماضي والحال والاستقبال على حد سواء؛ قال الرازي في اللوامع: وتقدم زكاة الفطر على صلاة العيد، وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: رحم الله امرأً تصدق ثم صلى- ثم يقرأ هذه الآية، وإن كانت السورة مكية، فإنه يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم كما قال تعالى:{وأنت حل بهذا البلد} [البلد: 2] والسورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح- انتهى، وأخذه من البغوي، وزاد البغوي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأمر نافعاً رضي الله عنه بنحو ما قال ابن مسعود رضي الله عنه، ويقول: إنما نزلت هذه الآية في هذا.
وروى البزار: عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية» وفي السند كثير بن عبد الله- حسّن له الترمذي وضعفه غيره- والله أعلم.
ولما كان التقدير: وأنتم لا تفعلون ذلك، أو وهم لا يفعلونه- على القراءتين، عطف عليه قوله بالخطاب في قراءة الجماعة على الالتفات الدال على تناهي الغضب، منبهاً على المعاملات بسبب التداوي الرابع وهو الاستفراغ بنفي الرذائل والخبائث بالذم على ما ينبغي البراءة منه والحث على ما يتعين تحصيله تحصيلاً لحسن الرعاية: {بل تؤثرون} أي تختارون وتخصون بذلك على وجه الاستبداد، أيها الأشقياء، وبالغيب على الأصل عند أبي عمرو {الحياة الدنيا} أي الدنية بالفناء الحاضرة، مع أنها شر وفآنية، اشتغالاً بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات، فاستغرق اشتغالكم بها أوقاتكم ومنعكم عن ذكر اسم الله المنهي إلى ذكر الله والمهيئ له، وعن تزكية نفوسكم، فأوقعكم ذلك في داء القبقب وهو البطن، والدبدب وهو الفرج، وحب المال المؤدي إلى شر الأعمال، وتتركون الآخرة {والآخرة} أي والحال أن الدار التي هي غاية الخلق ومقصود الأمر، العالية المبرئة عن العبث، المنزهة عن الخروج عن الحكمة {خير} أي من الدنيا علي تقدير التسليم لأن فيها خيراً لأن نعيمها خالص لا كدر فيه بوجه {وأبقى} أي منها على تقدير المحال في الدنيا من أن تماديها إلى وقت زوالها تسمى بقاء، لأن نعيم الآخرة دائم لا انقطاع له أصلاً، وما كان باقياً لا يعادل بما يغني بوجه من الوجوه، فمن علم ذلك- وهو أمر لا يجهل- اشتغل بما يحصل الآخرة وينفي الدنيا بقسميها من الأعيان الحسية والشهوات المعنوية من الرعونات النفسآنية والمستلذات الوهمية، والآية من الاحتباك: ذكر الإيثار والدنو أولاً يدل على الترك والعلو ثانياً، وذكر الخير والبقاء ثانياً يدل على ضدهما أولاً، وسر ذلك أنه لا يؤثر الدنيء إلا دنيء فذكره أولاً لأنه أشد في التنفير، وذكر الخير والبقاء ثانياً لأنه أشد في الترغيب.
ولما كانت هذه النتيجة- التي هي الفلاح بالتزكية وما تبعها- خالصة الكتب المنزلة التي بها تدبير البقاء الأول، وصفها ترغيباً فيها بوصف جمع القدم المستلزم للصحة بتوارد الأفكار على تعاقب الأعصار، لأن ما مضت عليه السنون ومرت على قبوله الدهور تكون النفس أقبل للإذعان له وأدعى إلى إلزامه، وأفاد مع القدم أن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل عليهم الصلاة والسلام بل هو على منهاجهم، فرد رسالته من بينهم لا يقول به منصف لاسيما وقد زاد عليهم في المعجزات وسائر الكرامات بقوله مؤكداً لأجل من يكذب: {إن هذا} أي الوعظ العظيم بالتسبيح الذي ذكر في هذه السور وما تأثر عنه من التزكية بالذكر الموجب للصلاة والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، لأنه جامع لكل خير، وهو ثابت في كل شريعة لأنه المقصود بالحكم فهو لا يقبل النسخ {لفي الصحف الأولى} فمن تبع هذا القرآن الذي هو في هذه الصحف الربآنية فقد تحلى من زينة اللسان بما ينقله من البيان الذي هو في غاية التحرير وعظم الشأن وما يعلمه من المغيبات مما يكون أو كان، ونسيه أهل هذه الأزمان، فاستراح من ضلال الشعراء والكهان، الموقعين في الإثم والعدوان، فإن القرآن جمع المديح الفائق والنسيب الرقيق في وصف الحور والرحيق والفخر الحماسي والهجاء البليغ لأعداء الله، والترغيب الجاذب للقلوب والترهيب والملح الخبرية والحدود الشرعية- إلى غير ذلك من أمور لا تصل إليها الشعراء، ولا ينتهي إلى أدنى جنابها بلاغات البلغاء.
ولما كان ذلك عاماً خص من بينه تعظيماً لقدر هذه الموعظة أعظم الأنبياء الأقدمين، فقال مبدلاً مشيراً إلى الاستدلال بالتجربة: {صحف إبراهيم} قدمه لأن صحفه أقرب إلى الوعظ كما نطق به حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه {وموسى} ختم به لأن الغالب على كتابه الأحكام، والمواعظ فيه قليلة، ومنها الزواجر البليغة كاللعن لمن خالف أوامر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإخبار بأنهم يخالفونها كما هو مذكور في أواخرها مع أن ذكر النبيين عليهما الصلاة والسلام على الأصل في ترتيب الوجود والأفضلية، وقد حث آخرها على التزكي وهو التطهر من الأدناس الذي هو معنى التنزه والتخلق بأخلاق الله بحسب الطاقة، وكان في إتيانه والتذكير به إعلام بأن الله تعالى لم يهمل الخلق من البيان بعد أن خلقهم لأنه لم يخلقهم سدى، لأن ذلك من العبث الذي هو من أكبر النقائص وهو سبحانه منزه عن جميع شوائب النقص- فقد رجع آخرها على أولها، وكان تنزيه الرب سبحانه وتعالى وتنزيه النفس أيضًا غاية معولها- والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. اهـ.